All Writings
يناير 28, 2014

أين القادة الذين يلبّون النداء؟

لا يستطيع أحد أن يتّهم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعدم القيام بكلّ ما بوسعه للتوصل لاتفاقية سلام إسرائيلية – فلسطينية. ويعتبر عناده والتزامه ومثابرته صفات مثالية. وإذا كان بإمكان أحد أن ينجح من بعيد في إنهاء الصراع، جون كيري بدون شك على رأس القائمة. وإذا لم يكن كيري يؤمن بإمكانية التوصل إلى اتفاقية، لما استثمر- من الناحية المنطقية – هذا الكم الهائل من الوقت والموارد ورأس المال السياسي على مشروع تملّص من الكثيرين قبله.

السؤال هو لماذا أنا، مثلي مثل الكثيرين من المراقبين، أشك بأن المفاوضات الحالية الإسرائيلية – الفلسطينية ستؤدي إلى حلّ بالرّغم من جهود كيري الجبارة “والالتزام المزمع” للسلام من طرف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس محمود عباس.

هذا ليس بجواب ٍ سهل، ولكن ما ميّز صعوبة حلّ هذا الصراع في الماضي ما زال قائماً حتى اليوم، الأمر الذي زاد تعقيده أيضاً إطار خاطىء للمفاوضات وعدم الإلتزام بالتّوصل إلى اتفاقية التي ستستلزم حتماً تنازلات مؤلمة من كلا الطرفين.

قواعد المشاركة: قال كيري بأن:”المفاوضات ستعالج جميع القضايا الجوهرية التي كنا نحاول علاجها منذ اليوم الأول، شاملة الحدود والأمن ومشكلة اللاجئين والقدس والإعتراف المتبادل ونهاية الصراع وجميع المطالبات”. وهذا يبدو للوهلة الأولى إيجابياً جداً، ولكنه في الواقع وصفة للفشل.

وللبدء في بحث هذا الأمر، فإن الخلل المتأصل في وضع “قواعد المشاركة” هذه هو أنها لم تضع التفاوض حول القضايا الشائكة في مراحل أو في سلسلة من الحلقات المتعاقبة بحيث يسهّل حل الواحدة منها التوصل لحلّ الحلقة أو المرحلة الأخرى.

وبالرّغم من أن المفاوضات شملت جميع القضايا التي عدّدها كيري، غير أن نتنياهو أصرّ أن تكون قضية أمن إسرائيل القومي على رأس جدول الأعمال. ومطالبته على أية حال أن تحتفظ إسرائيل ببعض القوات في غور الأردن لم تعزّز سوى شك الفلسطينيين بأن الإحتلال الإسرائيلي سيستمر إلى أجلٍ غير مسمى فقط بشكلٍ آخر، الأمر الذي أثار بالطبع مقاومة عنيدة. فلو أصرّ كيري على أن التّوصل إلى اتفاقية حول الحدود يجب أن يأتي أولاً بدلاً من استسلامه لطلب نتنياهو، قد يكون بذلك مهّد الطريق للإقتراب كثيراً من لوصول إلى اتفاقية، ليس فقط بشأن مخاوف إسرائيل الأمنيّة، ولكن أيضاً لحلّ مشكلة المستوطنات. ومن السخرية أن يرفع نتنياهو وبإصرار موضوع الحاجة “لحدود قابلة للدفاع” في حين يرفض بعناد مناقشة الحدود أولاً لأنه لا يريد ببساطة أن يضع منذ البداية مقوّمات دولة فلسطينية لم يقرّ بها في الواقع.

إن اتفاقية حول الحدود من شأنها أن تلبي كلا الأمرين، المطلب العملي والراحة النفسية التي تحتاجهما السلطة الفلسطينية للمضي قدماً في سياسة “هذا مقابل ذاك” مع الإسرائيليين. هذا قد يسمح للرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يبيّن بأنه قد أحرز شيئاً لم يتم التوصل إليه سابقاً ويجعله أكثر مرونة للسماح لبعض القوات الإسرائيلية في البقاء بغور الأردن كجزء من قوّة دولية لحفظ السلام لفترة محدودة من الزمن. وحجة نتنياهو بأن مثل هذا التنازل الأساسي سيطيح حتماً بحكومته لا يفسّر أو يبرّر سبب أنّ تمسكه بحكومة الإئتلاف أكثر أهمية من السلام. والتّوصل لاتفاقية مع الفلسطينيين يتطلّب أولاً تغييراً جذرياً في الخارطة السياسية وفي طريقة معالجة الأمور داخل إسرائيل.

يجب على أيّ قائد سياسي إسرائيلي أن يضع السلام على رأس أجندته السياسية وعلى أي رئيس وزراء إسرائيلي أن يخاطر بمركزه وحتى بحياته من أجل قيادة شعبه للسلام وليس للهاوية التي يقود إليها نتنياهو البلاد. حتّى هذه الساعة لا توجد اتفاقية حول موضوع بقاء بعض القوات الإسرائيلية في غور الأردن، لا بل إنه يعقد إجمالي الصعوبات والمشاكل في التفاوض حول قضايا شائكة أخرى، وقد يكون هذا كلّه من تخطيط نتنياهو.


التوسع في المستوطنات

وبالرّغم من أنّ قواعد المشاركة لا تنصّ على وجوب إسرائيل أن تعلّق بناء وحدات سكنية جديدة خلال المفاوضات، غير أن فشل كيري في إقناع نتنياهو في تعليق البناء في المستوطنات أو على الأقلّ القيام بذلك بتحفّظ وبوتيرة أبطأ (بدون استفزاز الفلسطينيين عمداً) قد سمّم الأجواء وعمّق شكوك السلطة الفلسطينية حول نوايا نتنياهو الفعلية.

كان الرئيس عباس غاضباً لأسباب وجيهة عندما قال:”لن نبقى صامتين حيال انتشار سرطان المستوطنات، وبالأخصّ في القدس، وسنستخدم حقنا كدولة عضو في الأمم المتحدة باتخاذ إجراءات سياسية ودبلوماسية وقانونية لإيقافه”.

وهنا أيضاً فإن إتفاقية حول الحدود أولاً قد تحدّد وضع معظم المستوطنات وتقرّر أيّ منها سيصبح جزءاً من إسرائيل وأي منها لا. مثل هذه الاتفاقية الأولية ستسمح لإسرائيل التّوسع في أية مستوطنات تقع تحت إدارتها القانونية بالإتفاق مع الفلسطينيين وعلى أساس عمليات تبادل أراضي بإنصاف وحتى قبل التّوصل إلى اتفاقية شاملة.


الإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية:

الذي صعّد من تعقيد المفاوضات هو مطالبة نتنياهو بأن تعترف السلطة الفلسطينية بإسرائيل كدولة يهودية. والسخرية هنا إن إسرائيل لا تحتاج لأية حكومة فلسطينية، حالياً أو في المستقبل، للإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية لتمكين إسرائيل من الحفاظ على هويتها الوطنية اليهودية.

لا شكّ أن هناك نوايا شريرة وراء مطالبة نتنياهو، وللأسف وقع كيري في فخّها بالرّغم من افتقارها كلياً للمنطق وبالرّغم من أنها ستأتي بنتائج عكسية. وبصرف النظر عمّا إذا قام نتنياهو بهذا المطلب لإرضاء تحالفه اليميني المحافظ بشدة أو كحيلة لكسب الوقت، أو حتى إذا اعتقد بأن لمثل هذا الإعتراف مزايا حقيقية في تحويل المسألة الديمغرافية التي هي لغير صالح إسرائيل حالياً وقد تلحق ضرراً بهويتها الوطنية المستقبلية، فهو أقلّ ما يقال بأنه مخادع ماكر.

لقد قلت في مقالة سابقة بأن “هناك شكوك متزايدة في إسرائيل حول التزام الفلسطينين بالسلام. ففي الستة أشهر منذ انطلاق مفاوضات السلام لم تنقطع السلطة الفلسطينية عن التحريض ضد دولة إسرائيل”. وللزيادة من تقويض المفاوضات فقد صرّح وزير الاقتصاد نفتالي بينيت بأن المفاوضات الجارية”لم تجلب لنا سوى الإرهاب”. وصرّح في مناسبة أخرى قائلاً:”لقد انتخبتنا الأمّة لحراسة قيم دولة إسرائيل، لا أن نرهن مستقبلنا لأبو مازن”. ولكن أكثر التصريحات العلنية إثارة للغضب جاءت من موشي ياعلون، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي قال بأن كيري”الذي يعمل من منطلق هاجس غير مفهوم وشعور مسياني لا يستطيع أن يعلمني شيئاً واحداً عن الصراع مع الفلسطينيين. الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن ينقذنا هو إذا فاز كيري بجائزة نوبل وتركنا وشأننا”.

ولسوء الحظ لم يصرّ كيري على أن يتجنب الطرفان مثل هذه الروايات الشعبية السلبية على النحو الذي أصرّ فيه على الحفاظ على سرّية جوهر المفاوضات.

لقد أُلحق حتى الآن الكثير من الضرر للعملية السلمية والتي ازدادت سوءاً بتصريحات كيري العلنية، وبالأخصّ عندما قال:”إن البديل للعودة للمفاوضات هو احتمال الفوضى، أعني هل تريد إسرائيل انتفاضة ثالثة؟” لم يحرّك هذا النوع من التصريحات شيئاً سوى المزيد من تشبّث الطرفين بموقفهما.


الحقيقة والمصالحة:

بصرف النظر عن القضايا المتنازع عليها، هناك مشاعر عميقة بالكراهية وعدم الثقة وعدم تسوية حسابات تاريخية لا يمكن تسكينها بشكلٍ آلي. وأنا مستعد أن أتجرأ على القول بأنه وحتّى في حالة التّوصل إلى اتفاقية حول جميع القضايا الأخرى (وهو أمر بعيد المنال)، فإنها ستكون مؤقتة على أحسن تقدير.

كان على كيري وبالتزامن مع المفاوضات أن يُطالب (وما زال قادراً على ذلك) بخلق “لجنة الحقيقة والمصالحة” وتكون مشكّلة من شخصيات إسرائيلية وفلسطينية غير سياسية ومعتبرة لمعالجة الشكاوي التي يرفعها كلّ طرفٍ ضد الآخر وذلك لخلق جوّ يؤدي إلى تعايش سلمي دائم. وأنا مقتنع تماماً بأنه ما لم ينظر الإسرائيليون والفلسطينيون لبعضهم البعض في العيون ويصغوا ويفهموا ويظهروا تعاطفاً حقيقيّاً للتاريخ المؤلم الذي مرّ به كلّ منهما ولمخاوف المستقبل، فإن المفاوضات الحالية والمستقبلية ستبقى متعثّرة.

إنّ عملية “الحقيقة والمصالحة” صعبة ومقلقة، وقد تمّ تجنبها لأنها تحتاج للبحث عن الذات وفهم جوهر الغضب العاطفي للطرف الآخر. أضف إلى ذلك حقيقة أن على الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، أن يتعايشا بشكلٍ أو بآخر ولا يستطيعان الإستمرار بالعيش رافضين وجود بعضهما البعض. يجب أن يهتزا لكي يفهما بأن عملية الحقيقة والمصالحة ليست فقط إضافة لإجراء حسن، بل هي أمر مركزي وجوهري لتسهيل المفاوضات الحالية وتعكس كيف ستنظر الأجيال الإسرائيلية والفلسطينية مستقبلاً لبعضها البعض. فإذا كان الطرفان بما لا يقبل الجدل يبحثان عن السلام، عليهما تقديم الدليل القاطع بأنهما مستعدان وراغبان في العمل معاً على ذلك المستوى الإنساني بدلاً من التخبط في تجريم بعضهما البعض، الأمر الذي لن يأتي بشيء سوى دفعهما لمزيد من الفرقة والبغضاء وجعل السلام درباً من دروب الأوهام.


تنفيذ الإطار الأمريكي:

تصبح النقطة المذكورة أعلاه أكثر إقناعاً في ظلّ التشكك المتزايد حول إمكانية التّوصل لاتفاقية نهائية حتّى الموعد الأصلي المحدّد لها وهو شهر نيسان (أبريل) القادم، وهذا بدوره قد أفسح المجال لهدفٍ أكثر تواضعاً للوصول إلى تفاهم مرحلي يعتمد على أساس إطار زمني مرن سيقدمه كيري عن قريب. سيكون هذا لربما أقصى ما يأمله كيري. هذا وبالنظر إلى الوضع المتطاير في المنطقة وتصاعد الصراعات المسلحة التي أصبحت تكتنف إسرائيل والفلسطينيين والتململ المتزايد في الشارع الفلسطيني، فإن اتفاقية مرحلية أو حتّى إطار عام للسلام لن يصمد أمام اختبار الوقت.

وبخلاف رئيس الوزراء الراحل آرئيل شارون، فإن نتنياهو يبقى إيديولوجياً أعمى ليس لديه رؤية أين ستكون إسرائيل بعد 10 أو 15 عاماً وليس لديه الشجاعة لاتخاذ خطوات تصحيحية الآن لحماية إسرائيل من التنازل عن ديمقراطيتها وتعريض الهوية اليهودية القومية للخطر. وهو ما زال يتخبط في تفكيره الرّغبي جالباً خطراً أكبر على إسرائيل كل يومٍ يمرّ.

والرئيس الفلسطيني محمود عباس، من الناحية الأخرى، قد يكون راغباً في صنع اتفاق، ولكن فقط بشروطه حيث أنه مقيّد للغاية بدعمٍ شعبي محدود والوقت ينفذ منه. وفي الوقت الذي يدّعي فيه الرئيس الفلسطيني عباس بأنه يمثل جميع الفلسطينيين، فإن حماس التي تسيطر بالكامل على قطاع غزة لا تعترف بسلطة عباس ومن غير المحتمل أن تقبل بأية اتفاقية مع إسرائيل لا تتناسب مع أجندتها السياسية المدمّرة ذاتياً.


الإفتقار إلى قيادة شجاعة وذات رؤية بعيدة

وللتأكيد، لا نتنياهو ولا عباس أظهرا حتى الساعة قيادة شجاعة وذات رؤية بعيدة نحن بحاجة لها بالتأكيد في هذه المرحلة المصيرية. إن السجلات الإسرائيلية – الفلسطينية التاريخية مشبّعة بنكران ومقاومة المصير المحتوم وهناك القليل من الدلائل التي تشير إلى حدوث كثير من التغيير. ولذا من الوهم، لا بل من الخداع أن نفترض بأن تقديم إطار للإسرائيليين والفلسطينيين سيمهّد لهم في الحقيقة الطريق لاتفاقية سلامٍ في وقتٍ ما من المستقبل القريب. ولنقلها بصراحة مكشوفة، لن تحدث نتائج حقيقية سوى بضغط أمريكي مباشر، بشرط أن يفهم نتنياهو وعباس تماماً بأنه سيكون هناك عواقب وخيمة إن هما قاما بتحدي الولايات المتحدة.

ليس هناك حليف أفضل وأقرب لإسرائيل وللفلسطينيين من الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة الوحيدة التي بإمكانها توفير التغطية السياسية التي يحتاجها كلاهما، ولكن بإمكانها أيضاً أن تستخدم الإكراه و/أو الإغراءات لإجبارهما على إيجاد الأرضية الوسط للوصول إلى اتفاقية. والتهديد بالإمتناع عن الدعم السياسي لإسرائيل في المحافل الدولية سيستمرّ لإقناع نتنياهو وغيره من القادة السياسيين بأن يوم الحساب قد حان. والضغط السياسي والاقتصادي المماثل على محمود عباس سينعكس بشكلٍ سلبي خطير على الفلسطينيين الذين لا يستطيعون رفض الدعم الأمريكي الجوهري لهم. وفي هذا السياق على وزير الخارجية كيري أن يعيد تنشيط مبادرة السلام العربية ويطلب من الدول العربية القيادية، وبالأخصّ المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب والأردن وغيرها التي تدعم فعلاً مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية على أن تكون أكثر وضوحاً، لا بل “صخباً، في دعمها شعبياً مبادرته من أجل السلام، فعبّاس بحاجة إلى دعم الدول العربية سياسياً واقتصادياً والشعب الإسرائيلي بحاجة للإقناع بأن الأغلبية العظمى للعالم العربي تدعم مفاوضات السلام.

هناك بالطبع من يقول وبحق بأنه نظراً لمقاومة الكونغرس الأمريكي والمعارضة العنيدة لجمهور الناخبين الإنجيليين في أمريكا وما يسمى “اللوبي اليهودي”، فإن إدارة الرئيس أوباما ستبقى مترددة في إجبار إسرائيل على القيام بأية تنازلات لا ترغب فيها للفلسطينيين. هذا بالطبع قد يكون صحيحاً، ولكن مرّة أخرى إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية جادّة في تحقيق السلام وتعتقد بأنه الأفضل لصالح إسرائيل وبأن الوقت عامل أساسي في ذلك، فإنها لا تستطيع بعد الآن أن تتلكأ وتضيع الوقت في جهود وساطية تذهب سدىً. وهنا أيضاً وللقادة في أمريكا دور حاسم، فلا يستطيع الرئيس الأمريكي تسوية الصراع بعظاته حول السلام وترك جون كيري يغطس أو يسبح.

للولايات المتحدة مصالح استراتيجية ضخمة في الشرق الأوسط وبحاجةٍ لسلامٍ إسرائيلي – فلسطيني بالقدر الذي هي بحاجة إلى هذا السلام لمنع “حريق” كبير آخر من المؤكد بأنه سيأتي إذا بقيت الأوضاع الحالية كما هي. وسيشهد الشرق الأوسط اضطراباً هائلاً غير مسبوقاً لسنوات، وقد لا يكون هناك وقت أفضل من الآن للتوصل لسلامٍ فلسطيني – إسرائيلي، ولكن أين هم القادة الذين بمقدورهم تلبية النداء؟

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE