All Writings
أبريل 11, 2012

سوريا: ساحة المعركة بين السنّة والشيعة

في مقالة ٍ سابقة كتبتها العام الماضي (2011) قلت بأنّ الثورة في سوريا ستدفع تركيا وإيران إلى خطّ المواجهة لأنّ لكلا البلدين مصالح جيوإستراتيجيّة متناقضة وأنّ النتيجة ستكون عدم قدرة أيّ من الطرفين تجاهل الطرف الآخر. وأصبح بعد أربعة أشهر أكثر وضوحا بأن الإنتفاضة السوريّة تتجاوز مصالح ايران وتركيا الإستراتيجيّة حيث أنّ سوريا قد أصبحت الآن ساحة المعركة ما بين المجتمعات السنيّة والشيعيّة في جميع أرجاء الشرق الأوسط.  لقد رسمت الإنتفاضة السوريّة خطّا ً طائفيّا ً واضحا ً: المحور السنّي وتقوده تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة والمحور الشيعي الذي تتزعّمه إيران. وسيحدّد النظام السياسي الجديد الذي سيبرز أخيرا ً في سوريا ليس فقط النجاح أو الإخفاق النهائي لطموحات إيران في أن تصبح القوّة المهيمنة في المنطقة، بل عمّا إذا كان بمقدور العالم العربي السنّي الإبقاء على سيطرته أم لا. ولذا، فإن الصراع سيكون طويلا ً ومكلفا ً وعنيفاً ويعكس التاريخ الدموي الممتدّ إلى أكثر من ألف عام بين الطرفين.

قد لا يعيد التاريخ نفسه ولكنه يبقى منوّرا ً. فالإنشقاق السنّي – الشيعي يعود للوراء إلى ما يزيد عن ألف عام، ابتداء ً من النزاع على الخلافة الإسلاميّة بعد وفاة النبيّ محمّد (صلعم) في عام 632 ميلاديّة والإنتقال إلى الصراع ما بين ولاية السفافيد الشيعيّة  في بلاد فارس وولاية عثمان السنيّة في تركيا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. لقد شكّل هذا الصراع في الواقع جغرافيّة إسلام الشيعة حتى عصرنا الحاضر، أي أنّ بلاد فارس (ايران) ومحيطها الجغرافي أصبحت شيعيّة وتوطّنت السنّة في شرقها وغربها. وكان هناك بين المحورين فترات صراع وفترات سلام، مثلاً خلال الحقبة الواقعة ما بين انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة وصعود السلالة البهلاويّة العلمانيّة في ايران في العشرينات من القرن الماضي. هذه الفترة السلميّة توقّفت بثورة ايران الإسلاميّة في عام 1979 التي حاولت ايران جاهدة ً تصديرها إلى جيرانها العرب السنيين وواجهت مقاومة شرسة من هذه الدّول وصل أوجها في الحرب الإيرانيّة – العراقيّة التي استمرّت ثمانية أعوام في حقبة الثمانينات من القرن الماضي. وعلى ضوء هذا التنافس، لا بل الصراع، المستمرّ والطويل الأمد فإن الجهود السياسيّة السطحيّة التي قامت بها تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة لإخفاء النزاع بين السنّة والشيعة لم تفلح بل ُسّلط على هذا النزاع الآن الأضواء لكي يروه الجميع.

ليس هناك بيّنة للصراع المحتدّ بين السنّة والشيعة أوضح من الصّدامات العنيفة التي تقع بشكل ٍ يوميّ تقريباً في البحرين والتي تدخّلت فيها المملكة العربيّة السعوديّة بصورة مباشرة عسكريّا ً لإخماد الإنتفاضة الشيعيّة ولضمان استمرار السيطرة السنيّة على الحكم. ومهما كانت البحرين صغيرة حجما ً من الناحية الجغرافيّة، إلاّ أنّها تمثّل عالما ً صغيرا ً للصراع السنّي – الشيعي الذي عمّ المنطقة بأكملها. فالثورة السنيّة في العراق مستمرّة في إرهاب الأغلبيّة الشيعيّة متسبّبة ً كلّ أسبوع في موت العشرات من المدنيين الأبرياء على كلا الجانبين. ومجموعة حزب الله الشيعيّة في لبنان مستمرّة في دعم عمليّات القمع العنيفة التي تقوم بها الحكومة السوريّة ضدّ مواطنيها حيث وصل عدد القتلى حسب معظم التقديرات إلى ما يزيد عن 10.000.  وحماس السنيّة المذهب التي كانت تتمتّع بدعم ٍ مالي وعسكري من إيران وتتلقّى في نفس الوقت دعما ً سياسيّاً ولوجستيّا ً من النظام العلوي السوري – الذي يُعتبر بدوره فرعا ً من الإسلام الشيعي – قد تركت مقرّها الرئيسي في دمشق وتستنكر الآن علنا ً ما تقوم به السلطات السوريّة من إراقة ٍ للدماء ضدّ شعبها السنّي.

لقد اشتدّ التوتّر الدوبلماسي في الأسبوع الأخير ما بين أنقرة وطهران حول تصريحات صدرت عن مسئولين إيرانيين بخصوص نقل المباحثات المتعلّقة بالمسائل النوويّة "لمنطقة أكثر حيادا ً" مثل سوريا أو العراق أو الصين، الأمر الذي أغضب رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان الذي انتقد بدوره الإيرانيين بشدّة "لافتقارهم للثقة". أجل، هناك خلاف واضح بين ايران وتركيا على قضيّة سوريا. ففي حين تدعم إيران نظام بشّار الأسد بكلّ ما يحتاجه، تستضيف تركيا التجمّع الرئيسي للمعارضة المتمثّلة في المجلس الوطني السّوري. هذا انعكاس للمصالح الوطنيّة لكلّ من البلدين للسيطرة على بلد ٍ يوفّر لكليهما فرصة ً لترسيخ هيمنتهما الإقليميّة ومحاولة لعرض نموذج للنظام العربي الذي يبرز على سطح الأحداث لمحاكاته. وقبل كلّ شيء آخر، فإن الحركة الإسلاميّة السنيّة مثل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يعارض بشدّة سيطرة شيعيّة بجواره.

ومن ناحية أخرى، فإن المصالح الوطنيّة السعوديّة في سوريا في خطر ٍ أكبر لأنّ المملكة العربيّة السعوديّة تعتبر الزعيمة التقليديّة المحافظة للعالم العربي السنّي. وترسيخ قبضة إيران على سوريا سيجعل النفوذ الشيعي يتجاوز كامل منطقة الهلال الخصيب الواقعة ما بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسّط. وبالرغم من أنّ المملكة العربيّة السعوديّة لم تهتمّ كثيرا ً بمصير صدّام حسين النهائي الذي هدّد مرّة بغزو المملكة، فإن تسليم العراق على طبق ٍ من ذهب لإيران الشيعيّة في صحوة حرب العراق عام 2003 كان وسيبقى الموضوع المقلق جدّا ً للنظام السّعودي. وبالنظر إلى حقيقة أنّ من يحكم العراق في الوقت الحاضر هو نظام شيعيّ حليف لإيران يفسّر هذا قيام السعوديّة بتوفير اللجوء لأكبر شخصيّة سياسيّة سنيّة في العراق وهي نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الذي نتج عن خلافه السياسي مع رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي ملاحقة السلطات العراقيّة له على خلفيّة تهم تتعلّق بالإرهاب. ومن المهمّ بالنسبة للملكة العربيّة السعوديّة سحب سوريا من الجوف الإيراني، الأمر الذي يفسّر تأييد الحكومة السعوديّة تسليح الثوّار والمعارضة في سوريا على أمل الإطاحة بنظام بشّار الأسد.

أضف إلى ذلك، لا يوجد حبّ ضائع ما بين إيران وجماعة الإخوان المسلمين، وهذه الأخيرة حركة اسلاميّة سنيّة إقليميّة ستشكّل أحزابها المحليّة بالتأكيد الأنظمة الجديدة في مصر وليبيا وتونس. وبالرّغم من أنّ البلدان الثلاثة المذكورة تمرّ بعمليّة تحوّل صعبة، غير أنها ستبتهج لانهيار نظام بشّار الأسد وستعمل كلّ ما بوسعها لدعم نشوء حكومة سنيّة في سوريا. فالحكومتان الإنتقاليتان الجديدتان في ليبيا وفي تونس تعترفان رسميّا ً بالمجلس الوطني السوري على أنّه السلطة الشرعيّة في سوريا. وعلى نحو مماثل، فإن الوضع السياسي المضطرب في مصر لم يمنع الإخوان المسلمين من الإشارة بوضوح بأنهم بكلّ بساطة لا يتّفقون في كلّ شيء اتفاقا ً تامّا ً مع ايران. وبالفعل، فقد صرّح بلهجة ٍ لا تخلو من نذير الشؤم رئيس لجنة الشئون الخارجيّة في البرلمان المصري، عضو حزب الحريّة والعدالة الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، د. عصام الأرياني، بأنّ الربيع العربي قد يصل إيران أيضا ً.

وحيث أنّ العقوبات الدوليّة بدأت تأخذ مفعولها وبدأت القيادة الإيرانيّة تشعر بالألم، فقد وافقت على الدخول مرّة أخرى في مفاوضات ٍ مع الخمسة + 1 (الدول الكبرى الخمس دائمة العضويّة في مجلس الأمن + ألمانيا) حول برنامجها النووي. ونظرا ً لأن الوضع في سوريا بالنسبة لإيران ليس بأقلّ أهميّة من قضية برنامجها النووي، فقد أصبحت القضيتان مترابطتين كليّا ً مع بعضهما البعض لأن سعي ايران للحصول على أسلحة نوويّة مدفوعُ ليس فقط باعتبارات أمنيّة وطنيّة بل بالدرجة الأولى برغبة طهران امتلاك أسلحة نوويّة تعزّز بها هيمنتها الإقليميّة. وسوريا الأسد هي مفتاح هذه الإستراتيجيّة، وسقوط النظام السّوري سيزيد من عزلة ايران في جوار ٍ معظمه سنّي وسيقطع الروابط المباشرة القائمة ما بين طهران وحليفها حزب الله في لبنان. أضف إلى ذلك، في حالة سقوط النظام السّوري سيضعف بشكل ٍ سريع خلال فترة ٍ قصيرة من الزمن النفوذ الإيراني الحالي على سياسات العراق. وبالفعل، من المرجّح أن يتفوّق الشعور القومي العراقي أخيرا ً على الإنقسام الداخلي السنّي – الشيعي حيث يفتخر العراق تاريخيّا ً بمكانته الفريدة في الحضارة العربية لكونه مهد الثقافة العربيّة على ممرّ العصور منذ عهد العباسيين.

قد تكون إيران راغبة ً في إظهار بعض المرونة في مباحثات اسطنبول حول برنامج ايران النووي عن طريق استخدام أنصارها الرّوس لإقناع الغرب بتخفيف الضغط على سوريا لإنقاذ نظام الأسد وكسب الوقت لمنع هجوم ٍ على منشآتها النوويّة من قبل إسرائيل و/أو الولايات المتحدة الأمريكيّة. بإمكان الإيرانيين – من وجهة نظرهم – استئناف البرنامج النووي في أيّ وقت ٍ لاحق في حالة إعادة تثبيت نظام الأسد وبذلك يتمكّنون من حماية الهلال الشيعي. يبقى الأمل ألاّ يقع الغرب مرّة ثانية فريسة لبراعة الإيرانيين في المناورة والتسويف فقد سبق وأن ضحّى الإيرانيّون في عام 2003 بفترة توقّف مؤقّتة في تنفيذ برنامجهم النووي مقابل إحراز مكاسب سياسيّة.

وفي صحوة الإنهيار الوشيك لخطّة كوفي عنان في إنهاء الأزمة في سوريا، فإن لدى الأقطار السنيّة الرئيسيّة في المنطقة وهما تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة الآن الفرصة، لا بل الواجب، لإنهاء حكم بشّار الأسد ووضع حدّ ٍ للمجاز ضدّ شعبه وتمهيد الطريق لبروز حكومة سنيّة في دمشق. ولتحقيق ذلك، على هاتين الدولتين – عن طريق أخذ الشرعيّة من جامعة الدول العربيّة – أن تقدّما المساعدة العسكريّة للثوار وعلى تركيا في نفس الوقت استقطاع جزء ٍ لا بأس به من الأراضي السوريّة على طول حدودها مع سوريا وفرض منطقة حظر جوي بمساعدة حلفائها في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) لحماية اللاجئين السوريين وعناصر الجيش السوري الحرّ. أضف إلى ذلك، على كلتا الدّولتين عمل كلّ ما بوسعهما لحثّ المجتمع الدولي على إضفاء الشرعيّة على المجلس الوطني السّوري لوضع الأساس لتشكيل حكومة انتقاليّة. هذه الجهود مجتمعة ً ستنقذ سوريا وستنقذ كذلك المصالح الوطنيّة للدول السنيّة في المنطقة وتحرم في نفس الوقت ايران من تحقيق طموحاتها في أن تصبح قوّة مهيمنة في المنطقة مجهّزة بأسلحة نوويّة فعّالة.

أيّ شيء أقلّ من ذلك يعني السماح لإيران بإحراز انتصار ٍ كامل وتسليم الشرق الأوسط في مستقبل ٍ ليس ببعيد لصراع ٍ محتوم، صراع دموي مترامي الأطراف ما بين المحورين، السنّي والشيعي.

TAGS
غير مصنف
SHARE ARTICLE